عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ * وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها * وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
يُكَلّفُ سيفُ الدّوْلَةِ الجيشَ هَمّهُ * وَقد عَجِزَتْ عنهُ الجيوشُ الخضارمُ
وَيَطلُبُ عندَ النّاسِ ما عندَ نفسِه * وَذلكَ ما لا تَدّعيهِ الضّرَاغِمُ
هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لوْنَها * وَتَعْلَمُ أيُّ السّاقِيَيْنِ الغَمَائِمُ
سَقَتْها الغَمَامُ الغُرُّ قَبْلَ نُزُولِهِ * فَلَمّا دَنَا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ
بَنَاهَا فأعْلى وَالقَنَا يَقْرَعُ القَنَا * وَمَوْجُ المَنَايَا حَوْلَها مُتَلاطِمُ
وَكانَ بهَا مثْلُ الجُنُونِ فأصْبَحَتْ * وَمِنْ جُثَثِ القَتْلى عَلَيْها تَمائِمُ
وكيفَ تُرَجّي الرّومُ والرّوسُ هدمَها * وَذا الطّعْنُ آساسٌ لهَا وَدَعائِمُ
أتَوْكَ يَجُرّونَ الحَديدَ كَأَنَّهُمْ * سَرَوْا بِجِيَادٍ ما لَهُنّ قَوَائِمُ
إذا بَرَقُوا لم تُعْرَفِ البِيضُ منهُمُ * ثِيابُهُمُ من مِثْلِها وَالعَمَائِمُ
وَقَفْتَ وَما في المَوْتِ شكٌّ لوَاقِفٍ * كأنّكَ في جَفنِ الرّدَى وهْوَ نائِمُ
تَمُرّ بكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزيمَةً * وَوَجْهُكَ وَضّاحٌ وَثَغْرُكَ باسِمُ
تجاوَزْتَ مِقدارَ الشّجاعَةِ والنُّهَى * إلى قَوْلِ قَوْمٍ أنتَ بالغَيْبِ عالِمُ
ضَمَمْتَ جَناحَيهِمْ على القلبِ ضَمّةً * تَمُوتُ الخَوَافي تحتَها وَالقَوَادِمُ
نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الأُحَيْدِبِ كُلّهِ * كمَا نُثِرَتْ فَوْقَ العَرُوسِ الدّراهمُ
تدوسُ بكَ الخيلُ الوكورَ على الذُّرَى * وَقد كثرَتْ حَوْلَ الوُكورِ المَطاعِمُ
تَظُنّ فِراخُ الفُتْخِ أنّكَ زُرْتَهَا * بأُمّاتِها وَهْيَ العِتاقُ الصّلادِمُ
ألا أيّها السّيفُ الذي لَيسَ مُغمَداً * وَلا فيهِ مُرْتابٌ وَلا منْهُ عَاصِمُ
هَنيئاً لضَرْبِ الهَامِ وَالمَجْدِ وَالعُلَى * وَرَاجِيكَ وَالإسْلامِ أنّكَ سالِمُ
وَلِم لا يَقي الرّحمنُ حدّيك ما وَقى * وَتَفْليقُهُ هَامَ العِدَى بكَ دائِمُ
مناسبة قصيدة على قدر أهل العزم
أنشد المتنبي قصيدته الرائعة على إثر مناسبة عظيمة وحدث أعظم ، حيث دارت معركة كبيرة وتاريخية بين المسلمين بقيادة الأمير سيف الدولة ، والروم بقيادة الدمستق ، وذلك على مشارف قلعة الحدث التي كانت خاضعة للروم .
وقد كان جيش الروم آنذاك يتفوق بشكل كبير جدا من ناحية العدد على جيش سيف الدولة الذي لم يكن مستعدا لهذه المعركة ، إذ كان هدفه إعادة إعمار وبناء تلك القلعة .
ففاجأه جنود الرومان ، فوقعت المعركة التي أبان فيها الأمير وجنوده عن صبر وشجاعة فاقت التصور ، حتى أن المتنبي أطلق عليها اسم الحدث الحمراء ، لكثرة الدماء التي أريقت فيها .
معجم كلمات قصيدة على قدر أهل العزم
الضراغم : الأسود .
الحدث : قلعة بناها سيف الدولة في بلاد الروم .
السرى : سير الليل .
البيض : السيوف .
الخميس : الجيش .
الجوزاء : نجمان في السماء .
الزمازم : صوت الرعد .
الصارم : السيف القاطع .
الضبارم : الشجاع الجريء .
الردى : الهلاك .
كلمى : جرحى
الثغر : مقدم الفم
الهامات : الرؤوس
الردينيات : الرموح
الأحيدب : جبل الحدث .
الأراقم : جمع أرقم وهو الحية فيها بياض وسواد .
المشرفية : السيوف .
الغماغم : جلبة الحرب .
شرح وتحليل قصيدة المتنبي على قدر أهل العزم-1
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ * وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها * وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
في مقدمة تشحذ الهمم وتذكي العزائم ، يمهد المتنبي قصيدته بما يليق لاستقبال الأمير المظفر سيف الدولة ، هذا الاستقبال له تبعات تاريخية حافلة بانتصارات الأمير وشهرته بين الأمصار والبلدان .
يُكَلّفُ سيفُ الدّوْلَةِ الجيشَ هَمّهُ * وَقد عَجِزَتْ عنهُ الجيوشُ الخضارمُ
وَيَطلُبُ عندَ النّاسِ ما عندَ نفسِه * وَذلكَ ما لا تَدّعيهِ الضّرَاغِمُ
يُفَدّي أتَمُّ الطّيرِ عُمْراً سِلاحَهُ * نُسُورُ الفَلا أحداثُها وَالقَشاعِمُ
يشيد المتنبي بهمة سيف الدولة العالية في أمور تنظيم الجيش ، وهو لوحده قادر على القيام بكل شيء ، وكأنه أمة بحد ذاتها ، وهذا غاية في التعظيم والمديح .
بل إن النسور صغارها وكبارها تقول لأسلحة الأمير : نفديك بأنفسنا لأنها كفتها التعب في طلب القوت ، وهذا وصف وتعبير غاية في الجمال والبراعة ، حيث جعل للأمير مقاما أرفع وصل صداه للطير والبشر .
هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لوْنَها * وَتَعْلَمُ أيُّ السّاقِيَيْنِ الغَمَائِمُ
سَقَتْها الغَمَامُ الغُرُّ قَبْلَ نُزُولِهِ * فَلَمّا دَنَا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ
بَنَاهَا فأعْلى وَالقَنَا يَقْرَعُ القَنَا * وَمَوْجُ المَنَايَا حَوْلَها مُتَلاطِمُ
يتحدث عن القلعة التي تحول لونها إلى الأحمر جراء الدماء ، حيث سقتها الغمام مطرا قبل المعركة ، ليسقيها الأمير بعد المعركة جثثا وجماجم .
وَقَفْتَ وَما في المَوْتِ شكٌّ لوَاقِفٍ * كأنّكَ في جَفنِ الرّدَى وهْوَ نائِمُ
تَمُرّ بكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزيمَةً * وَوَجْهُكَ وَضّاحٌ وَثَغْرُكَ باسِمُ
تجاوَزْتَ مِقدارَ الشّجاعَةِ والنُّهَى * إلى قَوْلِ قَوْمٍ أنتَ بالغَيْبِ عالِمُ
شرح وتحليل قصيدة المتنبي على قدر أهل العزم ( 2 )
يصور الشاعر ، الأمير وهو واقف غير متهيب من هول الحرب ، ومقدم غير متوقع الموت ، ومتقدم بكل شجاعة ، حتى أن الهلاك قّدر بسالته وإقدامه فأعرض عنه وغفل عنه بالنوم ، فسلم ولم يهلك .
وتمر الجرحى من الأبطال منهزمين ومستسلمين ، لكن ذلك لا يثني عزم الأمير ، ولا يضعف نفسه ، بل يتبسم مستبشرا وواثقا من الله بنصره .
حَقَرْتَ الرُّدَيْنِيّاتِ حتى طَرَحتَها * وَحتى كأنّ السّيفَ للرّمحِ شاتِمُ
وَمَنْ طَلَبَ الفَتْحَ الجَليلَ فإنّمَا * مَفاتِيحُهُ البِيضُ الخِفافُ الصّوَارِمُ
يشيد الشاعر بترك الأمير للرماح التي لا تضرب بها إلا يد غدر متربصة ، وتقلده للسيوف التي لا يملكها إلا الشجعان المقبلين على المواجهة المباشرة في الحروب .
نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الأُحَيْدِبِ كُلّهِ * كمَا نُثِرَتْ فَوْقَ العَرُوسِ الدّراهمُ
استعارة رائعة وطريفة في آن واحد ، حيث يشبه فتك الأمير بجنود العدو ، كالدراهم المنثورة والمتفرقة على العروس ، كل درهم مرمي في جهة ، وكذلك كان حال الجنود المتناثرة جثتهم على جبل الأحيدب .
تَظُنّ فِراخُ الفُتْخِ أنّكَ زُرْتَهَا * بأُمّاتِها وَهْيَ العِتاقُ الصّلادِمُ
إذا زَلِقَتْ مَشّيْتَها ببُطونِهَا * كمَا تَتَمَشّى في الصّعيدِ الأراقِمُ
أراد الشاعر أن يبين منظر الخيل وهي تركض وسط الهضاب والأدغال الوعرة في سهولة ويسر كما هي طيور العقبان الكاسرة ، حتى أن فراخها ظنت أن الأمير قادم إليها يحييها وقد جاءت معه العقبان فرحة راضية ، فالجثث مغانم لها .
أفي كُلّ يَوْمٍ ذا الدُّمُسْتُقُ مُقدِمٌ * قَفَاهُ على الإقْدامِ للوَجْهِ لائِمُ
أيُنكِرُ رِيحَ اللّيثِ حتى يَذُوقَهُ * وَقد عَرَفتْ ريحَ اللّيوثِ البَهَائِمُ
وَقد فَجَعَتْهُ بابْنِهِ وَابنِ صِهْرِهِ * وَبالصّهْرِ حَمْلاتُ الأميرِ الغَوَاشِمُ
مضَى يَشكُرُ الأصْحَابَ في فوْته الظُّبَى * لِمَا شَغَلَتْهَا هامُهُمْ وَالمَعاصِمُ
يسخر الشاعر من قائد الروم الذي ورط نفسه في حرب جنى فيها على نفسه وأهله وجنده ، داعيا إياه أن يشكر أصحابه الذي انشغلت السيوف بهم فسلم رأسه ونجى من الهلاك .
شرح وتحليل قصيدة المتنبي على قدر أهل العزم ( 3 )
وَيَفْهَمُ صَوْتَ المَشرَفِيّةِ فيهِمِ * على أنّ أصْواتَ السّيوفِ أعَاجِمُ
يقول : السيوف لا يفهم أصواتها أحد ، لأن أصواتها أعاجم غير مفهومة ، والقائد الدمستق يفهم صوتها في أصحابه ، لأنه يستدل بذلك على قتلهم .
وَلَسْتَ مَليكاً هازِماً لِنَظِيرِهِ * وَلَكِنّكَ التّوْحيدُ للشّرْكِ هَازِمُ
لا يعتبر المتنبي أن هذا الانتصار هو انتصار أمير على أمير بقدر ما يعتبره انتصارا للإسلام على الشرك ، وبالتالي فإن انتصارات سيف الدولة ليست انتصارات شخصية عابرة ولكنها انتصارات تمثل كبرياء الإسلام والمسلمين .
لَكَ الحَمدُ في الدُّرّ الذي ليَ لَفظُهُ * فإنّكَ مُعْطيهِ وَإنّيَ نَاظِمُ
وَإنّي لَتَعْدو بي عَطَايَاكَ في الوَغَى * فَلا أنَا مَذْمُومٌ وَلا أنْتَ نَادِمُ
عَلى كُلّ طَيّارٍ إلَيْهَا برِجْلِهِ * إذا وَقَعَتْ في مِسْمَعَيْهِ الغَمَاغِمُ
انتصارات سيف الدولة هي انتصار للمتنبي أيضا حيث تشحذ ملكته الشعرية وتفجرها ، أي أنه شاعر كبير يتغنى بانتصارات أمير كبير ، كما أن موهبته الشعرية لا تقل عن بسالته في المعارك أيضا ، وفي ذلك مدح للشاعر نفسه .
ألا أيّها السّيفُ الذي لَيسَ مُغمَداً * وَلا فيهِ مُرْتابٌ وَلا منْهُ عَاصِمُ
هَنيئاً لضَرْبِ الهَامِ وَالمَجْدِ وَالعُلَى * وَرَاجِيكَ وَالإسْلامِ أنّكَ سالِمُ
وَلِم لا يَقي الرّحمنُ حدّيك ما وَقى * وَتَفْليقُهُ هَامَ العِدَى بكَ دائِمُ
يقول الشاعر مخاطبا الأمير : أنت السيف الذي لا ينبو له حد ، ولا يتضمنه غمد ، ولا تعتصم منه جثة ، لأن مقاصده موصولة بالنصر ، ومساعيه مكنوفة بجميل الصنع .
ولذلك فعناية الرحمان تشمله بالصون والحفظ أينما حل وارتحل ، لأنه يدافع عن دين الحق ، وينشر كلمة التوحيد ، ويبطش بكل معتد ومدنس لديار الإسلام .
مصادر ومراجع :
المصدر الاصلي اضغط هنا
– العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب ( ناصيف اليازجي ) .
– في التذوق الجمالي لقصيدة أبي الطيب المتنبي : على قدر أهل العزم تأتي العزائم ( محمد علي أبو حمدة ) .
0 تعليقات
اكتب تعليق