لطالما كانت قصص الأساطير اليونانية القديمة أرضا خصبا لما تلاها من حضارات قديمة تبني عليها آدابها وفلسفتها وملاحمها، وكانت قصص الحب والعشق التي جمعت البشر بالبشر والبشر بالآلهة تمثل السواد الأعظم من الأدب القصصي اليوناني القديم، لكن هذا لا ينفي كون الأساطير اليونانية تحتوي كذلك على أكثر القصص إثارة للقشعريرة في التاريخ، هذه الأنواع من القصص التي تعلق في أذهاننا، على غرار حرب طروادة، وقدر ميدوسا المأساوي.
سنتناول في مقالنا هذا إحدى أكثر هذه القصص بشاعة، وهي قصة ”الثور البرونزي“ التي يرجح كذلك أن تكون قصة واقعية بنسبة كبيرة:
كان في اليونان القديمة حوالي سنة 560 قبل الميلاد مستعمرة متاخمة لساحل البحر الأبيض المتوسط تعرف آنذاك باسم (أكراغاس) Akragas أو ما يعرف اليوم بـ(أغريجنتو) في جزيرة (صقلية)، وكان يحكم هذه المدينة حاكم قوي ومستبد عرف باسم (فالاريس)، فقد كان يبسط نفوذه على إحدى أكثر المدن جمالا وثراء ويحكمها بقبضة من حديد.
يقال أنه في أحد الأيام، جاء نحات البلاط لدى (فالاريس) ليعرض عليه اختراعه الأحدث وهو مجسم ”ثور“ مصنوع من نحاس متلألئ. لم يكن هذا الثور عبارة عن تمثال بحت، بل كان مجهزا ببعضة أنابيب وصافرات، وكان أجوفا داخله وشيد فوق نار ملتهبة؛ كان هذا الثور في واقع الأمر عبارة عن آلة تعذيب فظيعة.
صورة تبرز الثور البرونزي في (متحف التعذيب) في (بروج) في (بلجيكا)، تم تصميم هذا الثور ليكون آلة تعذيب جالبة للرعب والفزع وآلة عملاقة لشواء البشر، من أجل الطاغية والمستبد اليوناني (فالاريس)، من طرف نحاته الشخصي (بيريلاوس) – صورة: Dimitris Kamaras/Flickr
عندما تبلغ ألسنة لهب النار المتقدة أسفل هذا الثور أوجها، يتم الإلقاء بالضحية المسكينة إلى داخله حيث ستعمل كل من الحرارة والمعدن على شوائه حيا، ناهيك عن تحويل الأنابيب والصافرات لصراخ الضحية وعويلها إلى ما يشبه خوار ثور هائج، وهو اختراع كان (بيريلاوس) يعتقد أنه سيدغدغ مشاعر (فالاريس) ويعجبه كثيرا.
سواء أعجب (فالاريس) بهذا الاختراع أم لا، إلا أنه أثبت كونه مفيدا للغاية لخدمته، وكانت أول ضحية يبتلعها هذا الثور هي مخترعه ذاته (بيريلاوس).
لكن، وعلى غرار العديد من القصص من اليونان القديمة، من الصعب التحقق من كون قصة الثور البرونزي حقيقية.
تصور لمبدأ عمل الثور البرونزي – صورة: Tom Connell/howitworksdaily
كان الشاعر والفيلسوف (شيشرون) يتحدث عن الثور البرونزي في كتاباته على أنه كان حقيقة واقعية وليس خيالا، وأنه كان دليلا على وحشية الحاكم المستبد (فالاريس)، حيث ذكر ذلك في إحدى سلاسل خطاباته: ”كان ذلك الثور النبيل، الذي قيل أن أكثر الحكام بطشا واستبدادا كان يحوز عليه، وحيث كان يٌلقى بالرجال كعقاب لهم، وكانت النار تتقد تحته“.
استعمل (شيشرون) لاحقا رمز الثور لتمثيل وحشية (فالاريس) وتساءل عما إذا كان شعبه ليكونوا بأفضل حال تحت احتلال وسيطرة أجنبية منه لدى خضوعهم لسيطرته وبطشه، فقال: ”أفكر فيما إذا كان من الأفضل بالنسبة للصقليين أن يكونوا تحت حكم أمرائهم، أو أن يكونوا تحت سيطرة واحتلال الشعب الروماني، عندما كانوا يعانون الشيء نفسه من قمع وتهويل على أيدي أسيادهم المحليين“.
بالطبع كان (شيشرون) رجلا سياسيا استخدم خطاباته ليرسم صورة (فالاريس) الشرير المتوحش، وقد كان المؤرخ (ديودوريس) قد كتب كذلك أن (بيريلاوس) قال مخاطبا (فالاريس): ”إن رغبت يوما في تعذيب رجل، آه يا (فالارييس) ألق به داخل هذا الثور وأشعل نارا تحته، من خلال عويله وصراخه سيعتقد أن الثور يخور هائجا، وستمنحك آلامه وصرخاته متعة بينما تخرج من الأنابيب عبر المناخير“.
يقول (ديودوريس) كذلك أن (فالاريس) طلب من (بيريلاوس) أن يجري أمامه عرضا لما كان يعنيه من كلمات تصف مبدأ عمل الثور، وعندما تسلق (بيريلاوس) إلى داخل الثور، جعل (فالاريس) هذا النحات يشوى ويحترق حيا داخل اختراعه الفظيع هذا.
سواء كان حاكما مستبدا أم حاميا يقظا على سلامة شعبه، يبقى كون (فالاريس) وثوره البرونزي مادة دسمة لرواة القصص عبر التاريخ أمرا غاية في الوضوح.
المصدر:موقع دخلك بتعرف
تابعنا على